فصل: (سورة التوبة: آية 44)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة التوبة: آية 43]

{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43)}
{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} كناية عن الجناية، لأنّ العفو رادف لها. ومعناه: أخطأت وبئس ما فعلت. و{لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} بيان لما كنى عنه بالعفو. ومعناه: مالك أذنت لهم في القعود عن الغزو حين استأذنوك واعتلوا لك بعللهم وهلا استأنيت بالإذن {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ} من صدق في عذره ممن كذب فيه. وقيل شيئان فعلهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين وأخذه من الأسارى فعاتبه اللّه تعالى.

.[سورة التوبة: آية 44]

{لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)}
{لا يَسْتَأْذِنُكَ} ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا، وكان الخلص من المهاجرين والأنصار يقولون: لا نستأذن النبي أبدا، ولنجاهدنّ أبدا معه بأموالنا وأنفسنا.
ومعنى {أَنْ يُجاهِدُوا} في أن يجاهدوا، أو كراهة أن يجاهدوا {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} شهادة لهم بالانتظام في زمرة المتقين، وعدة لهم بأجزل الثواب.

.[سورة التوبة: الآيات 45- 48]

{إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48)}
{إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ} يعنى المنافقين، وكانوا تسعة وثلاثين رجلا {يَتَرَدَّدُونَ} عبارة عن التحير، لأن التردّد ديدن المتحير، كما أنّ الثبات والاستقرار ديدن المستبصر. قرئ: {عدّه}، بمعنى عدّته، فعل بالعدّة ما فعل بالعدة من قال:
وَأَخْلَفُوكَ عِدَ الأَمْرِ الذي وَعَدُوا

من حذف تاء التأنيث، وتعويض المضاف إليه منها. وقرئ: {عدّة}، بكسر العين بغير إضافة، وعدّه بإضافة. فإن قلت: كيف موقع حرف الاستدراك؟ قلت: لما كان قوله: {وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ} معطيًا معنى نفى خروجهم واستعدادهم للغزو. قيل: {وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ} كأنه قيل: ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم، كما تقول: ما أحسن إلي زيد، ولكن أساء إلي {فَثَبَّطَهُمْ} فكسلهم وخذلهم وضعف رغبتهم في الانبعاث {وَقِيلَ اقْعُدُوا} جعل إلقاء اللّه في قلوبهم كراهة الخروج أمرًا بالقعود. وقيل: هو قول الشيطان بالوسوسة. وقيل: هو قولهم لأنفسهم. وقيل: هو إذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لهم في القعود.
فإن قلت: كيف جاز أن يوقع اللّه تعالى في نفوسهم كراهة الخروج إلى الغزو وهي قبيحة، وتعالى اللّه عن إلهام القبيح؟ قلت: خروجهم كان مفسدة، لقوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا} فكان إيقاع كراهة ذلك الخروج في نفوسهم حسنًا ومصلحة. فإن قلت: فلم خطأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الإذن لهم فيما هو مصلحة؟ قلت: لأنّ إذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لهم لم يكن للنظر في هذه المصلحة ولا علمها إلا بعد القفول بإعلام اللّه تعالى، ولكن لأنهم استأذنوه في ذلك واعتذروا إليه، فكان عليه أن يتفحص عن كنه معاذيرهم ولا يتجوّز في قبولها، فمن ثم أتاه العتاب. ويجوز أن يكون في ترك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الإذن لهم مع تثبيط اللّه إياهم مصلحة أخرى، فبإذنه لهم فقدت تلك المصلحة، وذلك أنهم إذا ثبطهم اللّه فلم ينبعثوا وكان قعودهم بغير إذن من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قامت عليهم الحجة ولم تبق لهم معذرة.
ولقد تدارك اللّه ذلك حيث هتك أستارهم وكشف أسرارهم وشهد عليهم بالنفاق، وأنهم لا يؤمنون باللّه واليوم الآخر. فإن قلت: ما معنى قوله: {مَعَ الْقاعِدِينَ}؟ قلت: هو ذمّ لهم وتعجيز، وإلحاق بالنساء والصبيان والزمنى الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت، وهم القاعدون والخالفون والخوالف، ويبينه قوله تعالى: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ}. {إِلَّا خَبالًا} ليس من الاستثناء المنقطع في شيء كما يقولون لأن الاستثناء المنقطع هو أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه، كقولك: ما زادوكم خيرًا إلا خبالا، والمستثنى منه في هذا الكلام غير مذكور، وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من أعم العام الذي هو الشيء، فكان استثناء متصلا، لأنّ الخبال بعض أعمّ العام، كأنه قيل: ما زادوكم شيئًا إلا خبالا. والخبال، الفساد والشرّ {وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ} ولسعوا بينكم بالتضريب والنمائم وإفساد ذات البين. يقال: وضع البعير وضعًا إذا أسرع وأوضعته أنا. والمعنى: ولأوضع ركائبهم بينكم، والمراد الإسراع بالنمائم، لأنّ الراكب أسرع من الماشي.
وقرأ ابن الزبير رضى اللّه عنه: ولأرقصوا، من رقصت الناقة رقصًا إذا أسرعت وأرقصتها.
قال:
وَالرَّاقِصَات إلَى مِنْى فَالغَبْغَبِ

وقرئ: {ولأوفضوا}. فإن قلت: كيف خطّ في المصحف: ولا أوضعوا، بزيادة ألف؟ قلت: كانت الفتحة تكتب ألفًا قبل الخط العربي، والخط العربي اخترع قريبًا من نزول القرآن، وقد بقي من ذلك الألف أثر في الطباع، فكتبوا صورة الهمزة ألفًا، وفتحتها ألفًا أخرى، ونحو: {أو لا أذبحنه}. {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} يحاولون أن يفتنوكم. بأن يوقعوا الخلاف فيما بينكم ويفسدوا نياتكم في مغزاكم {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أي نمامون يسماعون حديثكم فينقلونه إليهم. أو فيكم قوم يسماعون للمنافقين ويطيعونهم {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ} أي العنت ونصب الغوائل والسعى في تشتيت شملك وتفريق أصحابك عنك، كما فعل عبد اللّه بن أبي يوم أحد حين انصرف بمن معه وعن ابن جريج رضى اللّه عنه: وقفوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على الثنية ليلة العقبة وهم اثنا عشر رجلا ليفتكوا به {مِنْ قَبْلُ} من قبل غزوة تبوك {وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ} ودبروا لك الحيل والمكايد، ودوّروا الآراء في إبطال أمرك. وقرئ: {وقلبوا} بالتخفيف {حَتَّى جاءَ الْحَقُّ} وهو تأييدك ونصرك {وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ} وغلب دينه وعلا شرعه.

.[سورة التوبة: آية 49]

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49)}
{ائْذَنْ لِي} في القعود {وَلا تَفْتِنِّي} ولا توقعني في الفتنة وهي الإثم، بأن لا تأذن لي فإنى إن تخلفت بغير إذنك أثمت. وقيل: ولا تلقني في الهلكة، فإنى إذا خرجت معك هلك مالى وعيالي وقيل: قال الجدّ بن قيس: قد علمت الأنصار أنى مستهتر بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر، يعنى نساء الروم، ولكنى أعينك بمال فاتركنى. وقرئ: {ولا تفتني}، من أفتنه {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} أي إنّ الفتنة هي التي سقطوا فيها، وهي فتنة التخلف. وفي مصحف أبي رضى اللّه عنه: سقط، لأنّ من موحد اللفظ مجموع المعنى {لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ} يعنى أنها تحيط بهم يوم القيامة. أو هي محيطة بهم الآن، لأنّ أسباب الإحاطة معهم فكأنهم في وسطها.

.[سورة التوبة: آية 50]

{إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)}
{إِنْ تُصِبْكَ} في بعض الغزوات {حَسَنَةٌ} ظفر وغنيمة {تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} نكبة وشدّة في بعضها نحو ما جرى في يوم أحد يفرحوا بحالهم في الانحراف عنك، و{يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا} أي أمرنا الذي نحن متسمون به، من الحذر والتيقظ والعمل بالحزم {مِنْ قَبْلُ} من قبل ما وقع. وتولوا عن مقام التحدّث بذلك والاجتماع له إلى أهاليهم {وَهُمْ فَرِحُونَ} مسرورون. وقيل: تولوا: أعرضوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

.[سورة التوبة: آية 51]

{قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)}
قرأ ابن مسعود رضى اللّه عنه: {قل هل يصيبنا}.
وقرأ طلحة رضى اللّه عنه: {هل يصيبنا}، بتشديد الياء. ووجهه أن يكون يفيعل لا يفعل لأنه من بنات الواو، كقولهم: الصواب، وصاب السهم يصوب، ومصاوب في جمع مصيبة، فحق يفعل منه يصوّب ألا ترى إلى قولهم: صوّب رأيه، إلا أن يكون من لغة من يقول: صاب السهم يصيب. ومن قوله أسهمى الصائبات والصيب، واللام في قوله: {إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا} مفيدة معنى الاختصاص كأنه قيل: لن يصيبنا إلا ما اختصنا اللّه به بإثباته وإيجابه من النصرة عليكم أو الشهادة. ألا ترى إلى قوله: {هُوَ مَوْلانا} أي الذي يتولانا ونتولاه، {ذلك بأنّ اللّه مولى الذين آمنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم} {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} وحق المؤمنين أن لا يتوكلوا على غير اللّه، فليفعلوا ما هو حقهم. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ} أي: لَوْ كَانَ مَا اسْتَنْفَرْتَهُمْ لَهُ، وَدَعَوْتَهُمْ إِلَيْهِ أَيُّهَا الرَّسُولُ عَرَضًا- وَهُوَ مَا يَعْرِضُ لِلْمَرْءِ مِنْ مَنْفَعَةٍ وَمَتَاعٍ، مِمَّا لَا ثَبَاتَ لَهُ وَلَا بَقَاءَ- قَرِيبَ الْمَكَانِ وَالْمَنَالِ، لَيْسَ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهِ كَبِيرُ عَنَاءٍ، وَسَفَرًا قَاصِدًا، أَيْ: وَسَطًا لَا مَشَقَّةَ فِيهِ، وَلَا كَلَالَ لَاتَّبَعُوكَ فِيهِ وَأَسْرَعُوا بِالنَّفْرِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ حُبَّ الْمَنَافِعِ الْمَادِّيَّةِ وَالرَّغْبَةَ فِيهَا لَاصِقَةٌ بِطَبْعِ الْإِنْسَانِ، وَنَاهِيكَ بِهَا إِذَا كَانَتْ سَهْلَةَ الْمَأْخَذِ قَرِيبَةَ الْمَنَالِ، وَكَانَ الرَّاغِبُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ الْمُوقِنِينَ بِالْآخِرَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ لِلْمُجَاهِدِينَ كَأُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ الَّتِي دُعُوا إِلَيْهَا وَهِيَ تَبُوكُ- وَالشُّقَّةُ: النَّاحِيَةُ أَوِ الْمَسَافَةُ وَالطَّرِيقُ الَّتِي لَا تُقْطَعُ إِلَّا بِتَكَبُّدِ الْمَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ- وَكَبُرَ عَلَيْهِمُ التَّعَرُّضُ لِقِتَالِ الرُّومِ فِي دِيَارِ مُلْكِهِمْ وَهُمْ أَكْبَرُ دُوَلِ الْأَرْضِ الْحَرْبِيَّةِ، فَتَخَلَّفُوا جُبْنًا وَحُبًّا بِالرَّاحَةِ وَالسَّلَامَةِ {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ} أَيْ: بَعْدَ رُجُوعِكُمْ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ: {سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ} (9: 95) كَمَا قَالَ: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} (9: 94) قَائِلِينَ: {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} أَيْ: لَوِ اسْتَطَعْنَا الْخُرُوجَ إِلَى الْجِهَادِ بِانْتِفَاءِ الْأَعْذَارِ الْمَانِعَةِ لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ؛ فَإِنَّنَا لَمْ نَتَخَلَّفْ عَنْكُمْ إِلَّا مُضْطَرِّينَ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بِامْتِهَانِ اسْمِ اللهِ تَعَالَى بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ؛ لِسَتْرِ نِفَاقِهِمْ وَإِخْفَائِهِ، يُؤَيِّدُونَ الْبَاطِلَ بِالْبَاطِلِ، وَيَدْعُمُونَ الْإِجْرَامَ بِالْإِجْرَامِ، أَوْ بِالتَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ الْمُفْضِي إِلَى الْفَضِيحَةِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنْ سُوءِ الْمُعَامَلَةِ، فَالْجُمْلَةُ مُبَيِّنَةٌ لِحَالِهِمْ فِي حَلِفِهِمْ أَوْ مَا كَانَ سَبَبًا لَهُ، وَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ النَّجَاةَ فَيَقَعُونَ فِي الْهَلَاكِ: وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ لَوِ اسْتَطَاعُوا الْخُرُوجَ لَخَرَجُوا مَعَكُمْ.
{عَفَا اللهُ عَنْكَ} الْعَفْوُ: التَّجَاوُزُ عَنِ الذَّنْبِ أَوِ التَّقْصِيرِ، وَتَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ، وَيُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ. أَيْ عَفَا عَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ اجْتِهَادُكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ حِينَ اسْتَأْذَنُوكَ وَكَذَبُوا عَلَيْكَ فِي الِاعْتِذَارِ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ؟ أَيْ لِأَيِّ شَيْءٍ أَذِنْتَ لَهُمْ بِالْقُعُودِ وَالتَّخَلُّفِ كَمَا أَرَادُوا، وَهَلَّا اسْتَأْنَيْتَ وَتَرَيَّثْتَ بِالْإِذْنِ؟: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي الِاعْتِذَارِ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ فِيهِ، أَيْ: حَتَّى تُمَيِّزَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فَتُعَامِلَ كُلًّا بِمَا يَلِيقُ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَاذِبِينَ لَا يَخْرُجُونَ سَوَاءً أَذِنْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَأْذَنْ لَهُمْ، فَكَانَ مُقْتَضَى الْحَزْمِ أَنْ تَتَلَبَّثَ فِي الْإِذْنِ أَوْ تُمْسِكَ عَنْهُ اخْتِبَارًا لَهُمْ، رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} قَالَ: هُمْ نَاسٌ قَالُوا: اسْتَأْذِنُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنْ أَذِنَ لَكُمْ فَاقْعُدُوا، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ فَاقْعُدُوا.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.
قَالَ: لَقَدْ كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ، وَلَكِنْ كَانَ تَبْطِئَةً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ وَزَهَادَةً فِي الْجِهَادِ.
هَذَا وَإِنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ وَلاسيما الزَّمَخْشَرِيُّ قَدْ أَسَاءُوا الْأَدَبَ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ عَفْوِ اللهِ تَعَالَى عَنْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَتَعَلَّمُوا مِنْهَا أَعْلَى الْأَدَبِ مَعَهُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، إِذْ أَخْبَرَهُ رَبُّهُ وَمُؤَدِّبُهُ بِالْعَفْوِ قَبْلَ الذَّنْبِ، وَهُوَ مُنْتَهَى التَّكْرِيمِ وَاللُّطْفِ، وَبَالَغَ آخَرُونَ كَالرَّازِيِّ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ فَأَرَادُوا أَنْ يُثْبِتُوا أَنَّ الْعَفْوَ لَا يَدُلُّ عَلَى الذَّنْبِ، وَغَايَتُهُ أَنَّ الْإِذْنَ الَّذِي عَاتَبَهُ اللهُ عَلَيْهِ هُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَهُوَ جُمُودٌ مَعَ الِاصْطِلَاحَاتِ الْمُحَدَثَةِ وَالْعُرْفِ الْخَاصِّ فِي مَعْنَى الذَّنْبِ وَهُوَ الْمَعْصِيَةُ، وَمَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَهْرَبُوا مِنْ إِثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ تَمَسُّكًا بِاصْطِلَاحَاتِهِمْ وَعُرْفِهِمُ الْمُخَالِفِ لَهُ وَلِمَدْلُولِ اللُّغَةِ أَيْضًا، فَالذَّنْبُ فِي اللُّغَةِ كُلُّ عَمَلٍ يَسْتَتْبِعُ ضَرَرًا أَوْ فَوْتَ مَنْفَعَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ، مَأْخُوذٌ مِنْ ذَنَبِ الدَّابَّةِ، وَلَيْسَ مُرَادِفًا لِلْمَعْصِيَةِ بَلْ أَعَمُّ مِنْهَا، وَالْإِذْنُ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ قَدِ اسْتَتْبَعَ فَوْتَ الْمَصْلَحَةِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الْآيَةِ وَهِيَ تُبَيِّنُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَالْعِلْمَ بِالْكَاذِبِينَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} (48: 1 و2) الْآيَةَ.